الدعوة إلى الإسلام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى العلوم الاسلام الخاص بارشاد الناس الى الطريق الإسلامي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

  الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
مصطفى خياط
Admin



المساهمات : 198
تاريخ التسجيل : 16/06/2011
العمر : 29

 الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة Empty
مُساهمةموضوع: الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة    الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة I_icon_minitimeالأحد يونيو 19, 2011 1:24 pm

الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة :

إن أعظم الكتب كتاب الله تبارك وتعالى ؛ وإن أعظم سورة في ذلك الكتاب هي سورة الفاتحة ؛ فهي بالنسبة للقرآن كالخطبة أو المقدمة بالنسبة للكتاب؛ والقرآن شرح لها؛ ومعلوم أنه كلما كان صاحب الكتاب أعلم وأبلغ كان تلخيصه لمقاصد كتابه في مقدمته أكمل؛ هذا بالنسبة لكلام المخلوقين الذين علَّمهم الله تبارك وتعالى من النطق والبيان بحسب حاجتهم وأهليتهم ؛ فكيف إذا كان الكتاب كتاب رب العالمين ؟!

فالفاتحة أعظم السور وأم القرآن ، جمعت جميع مقاصد القرآن ولذلك سميت أم القرآن‏ ، وارجع إلى التفاسير لترى كثرة أسمائها وفضائلها ، وحُق لمن قرأها بتدبر وامتثال أن يمتلىء قلبه يقيناً وإيماناً ، وأن يكون عالماً راسخاً أكرمه الله بنور العلم واليقين .

1- قال تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل : 98. ليست الاستعاذة من القرآن بالإجماع ، وإنما نذكرها طاعة لله تعالى ، واعتصاماً به ولجوءاً إليه أن يمنعنا من الشيطان الرجيم الذي يصرفنا عن تدبر ما نقرأ من كتاب الله .

2- إن أعظم غاية المؤمن في هذه الحياة أن يستقيم على أمر الله ، ولا يمكن أن يستقيم على أمر الله إلا أن يكون متحرزاً من شرور الشيطان وجنوده من الإنس والجن .

3- حين تقول الاستعاذة استشعر أنك تطلب التحرز من الله جل وعلا ، فإذا لجأت إلى الله أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، ويعصمك منه ، كان هذا سبباً في حضور قلبك ، واستعداد نفسك ، فاعرف معنى هذه الكلمة ، واستشعر معناها .

4- { بسم الله الرحمن الرحيم } افتتاح القرآن بهذه الكلمة العظيمة التي هي من أعظم ما أنعم الله جل وعلا على عباده المؤمنين ، وهذا إقرار منك بأن الله عز وجل هو المعين لك في كل أمورك ، وأعظمها قراءة القرآن .

5- قولك { بسم الله } يعني : أتلو القرآن مستعيناً بكل اسم من أسماء الله ، لأن أسماء الله جل وعلا كلها لمسمى واحد ، هو الله سبحانه ، ولكن كل اسم منها يدل على صفة من صفاته تنـزهه وتقدسه ، فاسم الله هو أصل الأسماء ، والدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى .

6- حين تستحضر عند قولك :{ بسم الله } بعض الأسماء ، يفتح الله على قلبك أنواعاً من العبودية ،كلٌ مما يناسب حالك ومقصودك ، فإذا قلت :{ بسم الله } وأنت في كرب استحضر أسماء الله التي فيها تفريج الكروب ، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مغلوب استحضر أسماء الله التي فيها النصر والتأييد، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مذنب استحضر أسماء الله التي فيها التوبة والعفو والغفران ، وإذا قلت : { بسم الله } وأنت محتاج استحضر أسماء الله التي فيها الرزق والغنى ... .

7- في قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } دلالة على سعة رحمته وتقوية الرجاء في قلوب عباده ، وقد اختار سبحانه هذين الوصفين في البسملة التي يرددها المسلم في مختلف شؤونه وحالاته ، فالإنسان في سير حياته تشمله العناية الإلهية بالرحمة الشاملة ، ومن حكمة تكرار هذه الكلمة أننا نحتاج هذه الرحمة في كل طرفة عين ، وفي كل حال ومجال .

8- لم تُذكر في البسملة صفات أخرى ، مثل التواب ، الغفور ، الشافي ، الكريم ، الرازق ، الرؤوف ... ، لأن كل هذه الأمور وغيرها مآلها إلى صفة الرحمة ، فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عنه سبحانه ، فيرزق ، ويشفي ، ويدبر ، ويتوب ، ويغفر .. فالدخول من باب الرحمة ، يوصلك إلى مضمون سائر الصفات ، فهو يشفيك لأنه الرحيم ، ويعطيك لأنه الرحيم ، ويتوب عليك لأنه الرحيم ، ويرزقك لأنه الرحيم ، وينصرك لأنه الرحيم ...

9- البسملة آية من القرآن ولكنها منفصلة من السور ، ونزلت للفصل بين السور .

10- في قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أمر من الله سبحانه وتعالى لعباده بالتوجه إليه بالحمد الكامل والثناء الشامل في كل صلاة ، فالحمد ثناء أثنى به الله تعالى على نفسه ، وقوله : { لله } اللام للاختصاص والاستحقاق ، فالمستحق لهذا الحمد الخالص الشامل هو الله تعالى ، وفي الحديث : ( اللهم لك الحمد كله ) البخاري 1 / 243 .

11- القائل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى ، ولا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى من هذه الكلمة ؛ فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وإجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ، ويذكر به، ويخبر عنه به ، فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس .

12- كلمة الحمد معناها الإخبار بمحاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، فهو الواحد الذي لا شريك له في ربوبيته ، ولا في إلهيته، ولا مثيل له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، بل هو ملك الملوك الذي له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والحكمة البالغة، والعزة الغالبة ، والكلمات التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر .

13- أعظم كلمة ترددها في حياتك وتهنأ بها نفسك هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وأحق كلمة قالها العباد هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة هو المستحق له سبحانه ، وجميع أنواع الحمد هي له لا لغيره ، فسبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه .

14- قول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } هو الشعور الذي يجب أن يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله ، بل إن وجود هذا الشعور في قلب المؤمن هو من فيوض النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء ، فتفاصيل حمده سبحانه وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام ، فهو المستحق للحمد كله في جميع الأوقات ، وبعدد اللحظات ، وكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض ، الأولين والآخرين ، إخبار عن ما يستحقه من الحمد ، لا عما يقوله العبد من الحمد .

15- استحضار كلمة { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أثناء قراءتها في الصلاة أو خارجها يفتح للعبد أبواباً من محبة الله وتمجيده وتعظيمه وحسن الثناء عليه ، ويفيض على قلبه أنواعاً من العلم ، والمحبة ، وحسن الظن بالله ، والتوكل على الله عز وجل ، ويفتح له من العبادات القلبيه التي لا يعلمها إلا من عاشها وعرفها ، فهو يستحضر حين يقرأ هذه الكلمة الأسماء العظيمة التي لله جل وعلا وآثارها على نفسه .

16- في قوله تعالى :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } جاء تقديم وصفه بالألوهية على وصفه بالربوبية ، فلم يقل جل وعلا : الحمد لرب العالمين ، بل قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، للتذكير بأعظم نعمة أنعمها عليك وهي نعمة العبودية ، فالله هو المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب .

17- إن من أعظم نعم الله عليك أن جعلك عبداً له خاصة ، ولم يجعلك منقسماً بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلك عبداً لإله غيره ، لا يسمع صوتك ، ولا يبصر أفعالك، ولا يعلم أحوالك، ولا يملك لك ضراً ولا نفعاً ، ولا وموتاً ولا حياةً ، ولا نشوراً، ولا تُرفع إليه الأيدي ، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح ، فله الحمد أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى .

18- كلمة ( الحمد ) مفتاح المعارف الاعتقادية ، وتأتي كنتيجة قلبية بعد التعرف على الله من خلال تدبر الألفاظ التي نكررها ، فتكرار السورة في كل ركعة يجعل المتدبر قادراً على استشعار الحمد في مختلف الحالات والظروف التي تمر به في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في العز والذل .

19- المؤمن يعيش حالة دائمة من الحمد لله عز وجل مردها اليقين والرضا بأمر الله ، بل يصل إلى شكر الخالق على قضائه وقدره ليقينه أن كل ما يقضي به خالقه هو خير له . عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماأنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمدلله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ . سنن ابن ماجه 2/ 1250 . حسنه البوصيري ووافقه الألباني .

20- لا يكون حامداً من جهل صفات المحمود ، ولا يمكن أن يكون حامداً كل الحمد إذا لم يعرف نعم الله عليه ويعترف بها ، وإن قال ذلك بلسانه ، فكم هم الذين يرددون هذه الكلمة ولكن كما قال تعالى :{ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ }. فلفظ الحمد يلفظه كل أحد ، ولكن لفظ القلب لايتأتى إلا للقلب المعمور بحبه ومعرفته ، فمجرد الادعاء لايعبّر عن الحقيقة ، فالحمد كلمة يقولها القلب قبل اللسان لتنعكس على الجوارح ، فتخضع لله شكراً وسلوكاً وعملاً .

21- في قوله تعالى : { رَبِّ العَالَمِينَ } تأكيد لاستحقاقه كل الحمد ، فكل خير ونعمة في العالمين فهي من عنده ؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه ، فهو رب كل شيء وخالقه ، لا يخرج شيء عن ربوبيته ، المالك المتصرف في هذا الكون بأجمعه ، وكل من في السموات والأرض عبدٌ له في قبضته ، مربي جميع العالمين بخلقه إياهم ، وإنعامه عليهم ، وتدبير أمورهم ، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم ، وقد جاء وصفه بالربوبيه بعد وصفه بالألوهية ، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد .


22- { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته جميع الخلق ، فهو الموصوف بالرحمة مع كمال قوته وقهره وكمال غناه وعزته ، أرحم بعباده من الأم بولدها ، فرحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ؟! فلو جُمعت رحمة الخلق كلهم لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاءت امرأة في السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فقال : إن اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها. صحيح البخاري _ الفتح 5999 ومسلم 2754.

23- إن الأم تهتم – عادة – بتربية طفلها ، وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه ، وتتحمل الأذى في سبيل ذلك ، وذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب ، بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة ، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه ، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه ، فإذا كانت هذه رحمة الأم فكيف رحمة رب العالمين ! فما أحوجنا لتذكر هذا الأمر ، وما أشد غفلتنا عنه .

24- في مجيء { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } بعد { رَبِّ العَالَمِينَ } بيان أن شمول الربوبية لا يخرج شيء منها عن شمول الرحمة وسعتها ، فاستحضر وأنت تردد { رَبِّ العَالَمِينَ } معاني ربوبيته وآثارها في الخلق ، فإن استحضارها يجعل القلب يلين تعظيماً لله , وثناءً عليه وإجلالاً له ومحبة ، واستشعر وأنت تقرأ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } أن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك ، وأن الرحمة الحقيقية هي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد ، وإن كرهتها نفسه .

25- كلما كنت أعرف بمعنى هذين الاسمين كنت أرضى بقضاء الرب سبحانه وتعالى وعلمت أن قضاء الله عز وجل دائر بين العدل ، والحكمة والرحمة ،كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : ( اللهم اني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ماضٍ فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك .... ) الحديث . رواه أحمد برقم 799 وصححه الألباني . فشهودك نعمة الله عليك في كل شيء حتى في المكروه يجعلك تتيقن أن كل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة.

26- إن شعور العبد بمعية الله وصحبته وهو يردد تلك الكلمات في كل صلاة بل في كل ركعة يجعله في أنس دائم ، ونعيم موصول بقربه ، ويحس دائماً بالنور يغمر قلبه ، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم ، ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين ، كيف لا وهو يردد كلمة الحمد على من ربَّاه وأحسن إليه وصرَّف أحواله ، ودبر أموره ، فلا يقلق إذا تعسر أمر ، ولا يحزن إذا فاته شيء ، فهو أرحم الراحمين ، بيده الرحمة التي لا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يحجبها عنه أو يمنعها .

27- إن أعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية ، وإن وصول الإنسان إلى ربه ومعرفته إياه حق المعرفة تكون من خلال إحساسه بنعمته وفضله عليه ، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة والاعتراف بها تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي ، العقلي ، النظري ، لأن هذه المعرفة حسية ، وجدانية ، فطرية ، يتفاعل معها العبد بأعماقه ، وبكل أحاسيسه ومشاعره ، وفطرته .

28- يقينك بهذه الآيات سبب فوزك بنعيم الدنيا الذي هو سكينة القلب واطمئنان النفس ، لأن العبد عندما يفوز بهذه المعرفة يسكن جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ، لأنه لا يزال راضياً عن ربه ، والرضا ، كما قال أحد السلف جنة الدنيا ومستراح العارفين ، أما الجاهل برب العالمين الرحمن الرحيم فتراه جاحداً لنعمه ، منكراً لفضله ، ساخطاً من قضائه ، لأن من لم يعرف ربه ومعبوده ، لايهنأ بعيش ، وكما قال ابن القيم : فقلب العبد لا يزال يهيم في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة . ا.هـ

29- في الآيات السابقة يريد جل وعلا أن يطرح قضية التوحيد من خلال التعريف بأسمائه وصفاته ، والإحساس المباشر بآثارها في الحياة ، فهي ليست مجرد أمر تصوري ، أو نظري ؛ بل بيّن جل وعلا ما يفهمه الإنسان ، ويتلمسه بوجدانه ، ويتحسسه بمشاعره ، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة ، وبالعطاء ، وبآثار الرحمة ، التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات ، في نفسه ، وفي كل ما يحيط به .

30- من تعرف على أسماء الله وصفاته من خلال هذه السورة وغيرها من السور وجدها مدائح وثناء يعجز الوصف عنها والإحاطة بها، كما قال ابن القيم : فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم، ولا سنحت في فكر، ففي دعاء أعرف الخلق بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده صلى الله عليه وسلم قال : «أسأَلُك بكلِّ اسمٍ هو لكَ ، سَمَّيتَ به نفسك ، أو أنْزَلتَه في كتابك ، أَو استَأثَرْتَ به في علم الغيب عندَك : أن تجعلَ القرآن ربيعَ قلبي ، وجَلاءَ هَمِّي وذهاب غَمِّي» وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لما يسجد بين يدي ربه قال: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَي وَيُلْهِمُنِى مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِى» .

31- كما أن { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } كلمة المؤمن يكررها في كل حال ومقال ، فإن الحمد يستمر مع المؤمن حتى بعد دخول الجنة ،كما قال تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يونس 10 .

32- في ذكر الربوبية ما يثير المهابة ، وفي ذكر الرحمة ما يثير الرجاء؛ وكلاهما أي : الربوبية والرحمة يؤدي إلى الحب ؛ فهو محبوب لكماله وعظمته فهو رب العالمين، ومحبوب لرحمته فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، فاستشعار تلك الكلمات وتدبرها ، يقوي العلاقة بينك وبين ربك، لأنه واقع حي، تتلمسه بأحاسيسك الظاهرة قبل الباطنة ، في كل حين ، وفي كل مجال .

33- إذا تأمل العبد هذه المعاني العظيمة أثناء قراءته أو حتى بعد خروجه من الصلاة ، تفجرت ينابيع الثناء والحمد من على لسانه وقلبه ، ولهج بالثناء على الله ثناء محبة وتعظيم وتذلل ، وطاعة وإنابة ، أما من جهل تلك المعاني فلا يتحقق منه ذلك .

34- من لم يباشر قلبه حلاوة هذه المعاني وجذبها للقلوب والأرواح ، فليعالج قلبه بالتقوى، وليخرج منه الأمراض التي حالت بينه وبين نصيبه من ذلك ، وأن يلجأ إلى الله الرحمن الرحيم أن يحيي قلبه ويزكيه ، ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة التي هي من آثار تلك المعرفة .

35- في قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر ، فكلمة { يَوْمِ الدِّينِ } تشير إلى الجزاء ، ثواباً على الإحسان، وعقاباً على الإساءة ، فأنت تكرر في كل ركعة هذه الآية التي تعني أن من أوصافه التي نثني عليه بها أنه مالك يوم الجزاء الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل ، فيجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (Cool } .

36- الاعتقاد بالحساب يجعلك تشعر بالمسؤولية عن التغيير في حياتك ، ولعل في تكرار هذه الآية في كل ركعة يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر عنه ، فإذا كان يعقل ما يقول فسيورثه ذلك خوفاً من ذلك اليوم الذي يحاسب الله عز وجل فيه الخلائق ، فهل استشعرنا أننا سنقف جميعاً في ذلك اليوم الذي يوفّي الله فيه كل نفس ما كسبت ؟! فكم نردد تلك الكلمات ولانشعر بالرهبة .

37- الله جل وعلا مالك كل الأيام ؛ وخص يوم الدين بإضافة الملك إليه لخطورته ، ولأنه ختام الأيام وثمرتها ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملاً ، فكل الملكيات تزول وتتلاشى ، فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ، ولا عن غيره ، ولن يكون قادراً على التصرف بماله، ولا بقوته ، ولا بمنصبه ، ولا بموقعه الاجتماعي ، أو السياسي ، ولا بلسانه ، ولا بيده ، ولا بغير ذلك ، فيوم الدين هو اليوم الذي يتجرد العباد من مناصبهم الدنيوية ومكانتهم الاجتماعية، فالكل سواء ، يحاسبون على ما قدموا من أعمال في حياتهم الدنيوية.

38- { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } من أعظم النعم المستوجبة للحمد فملكيته سبحانه ليوم الدين هي التي حمت الضعفاء والمظلومين والمحزونين ، فلمَ الهم ؟ ولم َ الحزن ؟ وأنت تعلم أن الله تعالى سيعوضك خيراً، وسيحاسب كل شخص على ظلمه وجبروته ، ولا يظلم ربك أحداً.

39- بقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } تُستكمل صفات العظمة والكمال ، فاستحقاق الحمد لصفاته جل وعلا كما هو لذاته ، فهو لأسمائه وصفاته ، فقد جاء الحمد والثناء له عز وجل في ذاته في كلمة : { لله} ثم جاء تأكيد الحمد له سبحانه في أوصاف عديدة له كقوله :{ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فبعد أن جاء الوصف برب العالمين ، عقَّب بصفتي الرحمن الرحيم للتعريف بعظمة رحمته ثم جاء وصف مالك يوم الدين للتنبيه على عموم التصرف في المخلوقات يوم الجزاء .

40- جاءت تلك الأوصاف كاملة بعد لفظة الحمد إشارة إلى استحقاقه سبحانه لا شريك له لكل المحامد والتعظيم ، ومن خلال الآيات نعلم أن الربوبية والألوهية والملك لا تنفك الواحدة عن الأخرى والرحمة سبب واصل بين ذلك كله ، والأسماء المذكورة هي أصول الأسماء الحسنى ، فاسم الله متضمن لصفات الألوهية واسم الرب متضمن لصفات الربوبية ، واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر .

قال ابن القيم رحمه الله : فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله ، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب ، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن ، ومعاني أسمائه تدور على هذا . ا.هـ

41- يقينك بعد استشعارك لأسمائه وصفاته التي حوتها السورة طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، أما الجاهل بتلك المعاني التي يرددها كل يوم ، بل في كل صلاة ، بل في كل ركعة ، تراه ينازع الله في تدبيره ويقدح في حكمته والسبب أنه خفيت عليه معانيها فهو في شقاء دائم .

42- في هذه الآيات الثلاث مناجاة الله للعبد في الصلاة كما جاء في الحديث ، فإذا قرأ العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } يقول الله : حمدني عبدي ، وإذا قرأ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يقول الله : أثنى علي عبدي ، وإذا قرأ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يقول الله : مجدني عبدي .. ، فهل نستشعر ذلك الحمد وذلك الثناء وذلك التمجيد حين نقرأ في صلواتنا ؟ وهل نستشعر ونستحضر جواب الله سبحانه لنا ؟

43- في هذه الآيات الثلاث ترغيب وترهيب : فالترغيب في قوله : { رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، والترهيب في قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وهذا الذي يجب أن يسلكه كل طالب علم وكل داعية في الدعوة إلى الله .

44- ظهر من كل ما تقدم ، ابتداءً من بسم الله ، وإلى قوله : يوم الدين : أن ربك تعرف إليك بأسمائه وصفاته، وتحبب إليك بنعمه وآلائه . قيل لابن عباس رضي الله عنهما : بم عرفت ربك ؟ فقال: عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه.فأنت تتعرف على الله كل يوم بل في كل صلاة ، بل في كل ركعة ، فمن انفتح له هذا الباب - باب الأسماء والصفات - انفتح له باب التوحيد الخالص بإذن الله .

45- إن مجرد الإقرار بوجود الله ، والاعتراف بنعمه ، من غير عبادة وإنابة ، وبالٌ على صاحبه، وإلا فما فائدة العلم إذا لم يكن طريقاً إلى الله ؟! وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فكان يقول في دعائه : ( ... وأعوذ بك من علم لاينفع ...) .

46- إن معرفة الخالق جل وعلا والإقرار بربوبيته أمر فطري ضروري يحسه في نفسه البر والفاجر، فهو شعور غامر يملأ على الإنسان أقطار نفسه، إقرارًا بخالقه، وتألهًا له، لا يستطيع دفعه ولا يملك رده ، وقد طابت نفوس العارفين بهذه المعرفة الضرورية الفطرية، وقرت بها عيونهم، وقنعوا بها عن أقيسة المناطقة والمتكلمين، حتى قيل لأحدهم يومًا: إن فلانًا من علماء الكلام قد أقام على وجود الله ألف دليل، فقال: لأن في نفسه ألف شبهة!!.

47- بدأ سبحانه وتعالى في السورة بذكر ما يورث في العبد المحبة لله وهو ربوبيته جل وعلا وتربيته للعالمين في قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ، وفي ذكر ما يبعث الرجاء في القلب في قوله : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، ثم ذكر ما يبعث الخوف في القلب بالتذكير بيوم الجزاء والحساب في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، ليُعبد الله بهذه الثلاث : بمحبته ورجائه وخوفه ، وهذه الثلاث هي أركان العبادة .

48- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } نتيجة حتمية لكل عبد تفهم كل ما سبق ، ولهذا جاءت الآية بعد تلك الأوصاف الجليلة التي وصف الله بها نفسه في أول السورة لتبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف ، ولتكون أساساً عقائدياً متيناً ، يتلمسه الإنسان في واقعه ، ويحس به بفطرته .

49- مجيء { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بعد ذكر الآيات التي تبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف رد على الطوائف الثلاث التي كل طائفة تتعلق بواحدة منها ، كمن يعبد الله بالمحبة وحدها كالصوفية ، أو من يعبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة ، وكذلك من يعبد الله بالخوف وحده كالخوارج .

50- في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قدم المفعول وهو إياك ، وكرره للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة ، فأنت تعاهد ربك في كل صلاة أن لا تشرك به في عبادته أحدا .

51- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خطاب تخاطب به ربك ، فأنت أثنيت عليه في الآيات السابقة ، وبعد هذا الثناء كأنك اقتربت وحضرت بين يديه فقلت : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهذه صورة بلاغيّة عظيمة من أساليب القرآن الكريم تسمى الالتفات .

52- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مدرسة عملية تُذكِّرك يومياً بالتعرف على رسالة رب العالمين التي أرسلها إليك لترددها في كل ركعة ؛ وهي أن يقوم بقلبك من معرفته والمحبة له والرجاء له والخوف منه مايتحقق به العبودية الحقة .

53- { إيَّاكَ نَعْبُدُ } كمال الذل والخضوع والخوف والمحبة ، وكيف لا يشعر بالذل من يستحضر عظمة خالق كل شيء ؛ أو بالخوف من يستحضر شدة وعظمة يوم الدين والحساب ؛ وكيف لا يشعر بالحب من يسمع صفات الله تعالى ؛ ولا سيما الرحمن الرحيم المنبني عليهما الإحسان؛ وكذلك سائر صفات الكمال .

54- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إعلان للتوحيد في مختلف أنواعه وتثبيت في النفس معنى لا إله إلا الله ، فهي القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها ، وهي ملخص لرسالته صلى الله عليه وسلم ، ورسالات الرسل من قبله .

55- { إيَّاكَ نَعْبُدُ } حقيقة ضخمة غائبة عن الأذهان ، فأكثر من يقولها إنَّما يقولها تقليداً أو عادةً، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه ، وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء؛ كما في الحديث: « سمعت الناس يقولون شيئا فقلته » .

56- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ليست مجرد مفاهيم عقائدية خاوية ، لا دور فيها للعقل ، ولا للمنطق ، ولا للفطرة ولا للشعور، ولا للوجدان ، بل هي من صميم ذلك كله ، بل هي حياة العقل ، وانطلاقة الروح ، ووهج الشعور ، إنها الحياة الحقيقية ، وسر الوجود.

57- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } انجذاب قلبك وروحك إلى خالقك ، وهذا ماخُلقت له ، فأنت خُلقت لهدف وغاية . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات : 56 . وهيأ الله لك جميع مافي الأرض لتحقق هذه الغاية .

58- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } اعتراف منك بأن تكون أعمالك كلها لله ، وأقوالك لله ، وعطاؤك لله ، ومنعك لله ، وحبك لله ، وبغضك لله ، فمعاملتك ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده ، لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً .

59- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تلك الكلمة التي يرددها من يستغيث بغير الله ، ويدعو غير الله ، ويستعين بغير الله ، ويرجو غير الله ، ويخاف غير الله ، يرددها وهو كاذب على نفسه ، كاذب على ربه .

60- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تلك الكلمة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها، فظنوا أن معنى ( إياك نعبد ) أن نركع ونسجد ونصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن فقط ، وأن العبادة مقيدة بتلك العبادات فحسب .

61- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } عهد مع الله بأن تصرف العبادة كلها له لأنك عرفته ، وعرفت أن العمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ، وطلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ، والهرب من ذمهم ، ورجائهم للضر والنفع ، لا يكون من مؤمن يعرف ربه حق المعرفة ، بل لايكون إلا من جاهل بربه ، جاهل بخلقه .

62- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } واقع نعيشه ونتعايش معه ، فقد أعظم الله تعالى المنة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة ،فكانت الأمة التي استحقت أن تسمى المسلمـين لتحقيقها معاني :{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهي : إسلام القلب والجوارح ، إسلام الفرد والمجتمع ،إسلام الحياة كلها لله تعالى وحده لا شريك له .

63- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الاستجابة لكل الأوامر ، والانقياد والاستسلام لمن بيده ملكوت كل شيء ، في كل حال من الأحوال ، في كل زمان وفي كل مكان .

64- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ليست كلمة مجردة كما يريد أعداء الله عز وجل ، ممن يروجون للضلال بكل لسان ، الذين يتساءلون في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام وزي المرأة ؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! بل إنهم يتبجحون بأن الدين يفسد الاقتصاد ، فأي فرق بين هؤلاء وبين سؤال أهل الكفر في زمن نبي الله شعيب: { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } هود:87 .

65- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الحرية الحقيقية من عبادة غير الله ، وليس من أطلق على أهوائه حرية ، كمن يحاول أن يسقط جدار الإسلام , عن طريق نشر الرذيلة والفسوق باسم الحرية الشخصية ومهاجمة الإسلام تحت شعار الحرية الفكرية وأهم وسائلهم وأقواها هي ما يسمونه بتحرير المرأة ، ولا نعلم ممن سيحررونها ، أو كيف سيحررونها, فالمرأة في الإسلام تنال حريتها الكاملة عبر صيانتها من الأيدي العابثة ، فهي مصونة الحقوق محفوظة الكرامة ، ولكن عندما تصاب أمة من الأمم بهذا المرض المدمر : ( فقدان الذات ) فإن أبرز أعراضه يتمثل في الانبهار القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها .

66- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الإسلام الذي تضمنه تلك الكلمة العظيمة التي تعدل الكون كله ، بل ترجح به ، وما ظلت الأمة الإسلامية قروناً تقود البشرية ، وتتبوأ مركز الأمة الوسط بين العالمين ، إلا بفضل إدراكها لتلك الكلمة العظيمة والعمل بمضمونها وحقيقة مدلولها في واقع الحياة .

67- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } اعتراف منك بأنك عبد لله ، فالحرية الحقيقية في عبودية الله ، لا حرية لك بلباسك ولا بفعلك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود .

68- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الالتزام بالإسلام كله في شموله وسعته، وليس الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه وطرح جانب آخر ، وإلا كيف تردد : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.

69- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل المعبودات والطواغيت المختلفة، طاغوت الهوى ، وطاغوت الزعامة ، وطاغوت القبيلة ، وطاغوت الكهانة ، وطاغوت التقليد... ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله - جليله وحقيره وكبيره وصغيره- إلى الله تعالى وحده لا شريك له.

70- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تستوعب الكيان البشري كله, فمن يردد { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لا يعبد الله بلسانه فحسب أو ببدنه فقط أو بقلبه أو بعقله, بل يعبد الله بهذا كله: بلسانه ذاكراً داعياً تالياً, وببدنه مصلياً صائماً مجاهدا ً, وبقلبه محباً خائفاً راجياً متوكلاً, وبعقله متفكراً متدبراً متأملاً . وهذا هو معنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .

71- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ترجع إليها معاني القرآن كلّها، التي حوت في طيّاتها تجريد التّوحيد لربّ العبيد، والتوكّل عليه، والثّناء عليه، والدّعاء بالإقبال إليه، والافتخار والاعتزاز بعبادته .

72- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي البراءة من كل معبود من دونه ، فلا يتحاكم إلا إليه، ولا يتلقى الهدى إلا منه ولا يتوجه بالعمل إلا إليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه.


73- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي فقط التي تكفل سعادة الإنسان في الدارين ، فإذا لم تتحقق معاني { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أو ضعف تحقيقها لم يحصل المرء على مايطلب ولو ملك الدنيا بأسرها، ولو حصل على علوم الدنيا كلها ، ومن المؤسف أن بعض أهل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } شُغلوا بفلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار ، كل ذلك من أجل تحقيق الراحة والسعادة التي يبحثون عنها !! ولن يجدوها إلا في ظل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .

74- { إيَّاكَ نَعْبُدُ } معناها : أننا جميعاً لك عبيد ، فلم يقل: (أعبد) لأنك تخبر عن نفسك وغيرك من العباد ، وفي هذا إشارة إلى أن أهل الملة الواحدة هم يد واحدة ، فربهم واحد ، وكتابهم واحد ، ودينهم واحد ، ودعوتهم واحدة ، فلا مجال للشقاق ولا مجال للنزاع ، ولا مجال للفرقة .

75- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هدفك في الحياة الذي هو عبادة الله عز وجل ، وليس شيئاً نتحدث عنه ثم نقفله وننتهي إلى غيره ، بل هو معنى يرافقنا في كل وقت وفي كل حال ، وما جعلك الله ترددها في اليوم مراراً وتكراراً إلا لتفقه معناها وتعمل بمقتضاها ، لم يطلب منك تردادها إلا لأجل أن تقف مع نفسك وتتذكر هذه الكلمة التي هي حياتك ومصيرك !!

76- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } اعتراف منك بالعبودية ، فأنت تردد في كل ركعة هذا الاعتراف ، فهل وقفت مع نفسك وسألتها عن هذا الاعتراف ماهو ؟ وماحقيقته ؟

77- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أصلها عبادة القلب، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ، فالله عز وجل خلق هذا القلب وركبه تركيباً خاصاً لا يصلح بحال من الأحوال إلا إذا تعلق بربه ومليكه ، فإذا تعلق القلب بالمخلوق ؛ عذب بهذا المخلوق أياً كان سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو سيارة، أو عقارات، أو مالاً، أو غير ذلك.

78- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على الحقيقة والتحقيق : الدين كله، ولما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الإسلام والإيمان والإحسان قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .

79- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أصل الدين وقاعدته التي لا تصلح الحياة البشرية كلها إلا به ، فإذا عرفت الله ، وآمنت به ، ووحدته ، سهل عليك الانقياد لفعل الأوامر واجتناب النواهي رغبة في الثواب ، وخشية من العقاب والجزاء .

80- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } من أعظم الأدوية القلبية والبدنية ، وهاتان الكلمتان من أقوى أجزاء الدواء ، وسبب قوة هاتين الكلمتين لما فيها من عموم التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة والافتقار والطلب .

81- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كلمتان مقسومتان بين العبد وربه ، فالعبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والاستعانة تجمع أصلين : الثقة بالله والاعتماد عليه ، فالعبادة هي الغاية التي خلق الخلق من أجلها ، والاستعانة وسيلة إليها .

82- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } استحضارك عظم حاجتك إلى ربك عز وجل في أن يثبتك على توحيده ، فمادام اعترفت أنك لاتعبد غيره ولاتتعلق بسواه فأنت محتاج إلى من يعينك على ذلك ويثبتك عليه ، لأنه لا يمكن أن تثبت في توحيد الله إلا بعون منه ، وكلما كنت أتم عبودية كانت الإعانة لك من الله أعظم .

83- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إعلان ضعفك لله ، وافتقارك إليه ، وانكسارك بين يديه ، فهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، أما المخلوق فليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل .

84- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فيها الثقة برزق الله تعالى ونصره وعونه وحفظه ، فهناك من يعبد الله ولكنه يستعين بغير الله ، كالذين تخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، كالملوك والأغنياء والمشائخ .

85- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اعتراف منك أنك لاتستعين غيره ، ليقينك أن الأمر كله بيده وحده لا يملك أحد منه مثقال ذرة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ... الحديث ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، فمن استعان بغير الله وكله الله إليه ، فلا يستطيع نفعه ، بل يخذله ، وكما قال الشاعر :
من استعان بغير الله في طلب ***** فإنّ ناصره عجز وخذلان .

86- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اعتراف يمنعك أن ترجو المخلوق أو تستعين به أو تطلب منه منفعة لك فيما لايقدر عليه إلا الله ، أما إذا استعنت بالمخلوق فيما يقدر عليه كبناء الدار وخياطة الثوب ونحو ذلك فلا بأس بذلك ، فالتعاون مطلوب فيما يرضي الله ، فلا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم ، بل أحسن إليهم لله ، وكن كما قال تعالى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } الليل 19-20 .

87- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أن تخلص له وتتبع شرعه ، فمن أعظم ما تطلب الاستعانة به لتحقيق العبوديّة هو أن تكون خالصة لله ، وأن تكون بما شرعه الله على لسان رسوله ، لا بما تمليه عقول الرّجال، والعادات، والأعراف، وغير ذلك ، فإن الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان خالصاً لوجهه ، موافقاً لشرعه .

88- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أن تستعين بالله وتتوكل عليه في جميع أمور دينك ودنياك ، فإن كل عابد لله عبودية تامة فهو مستعين به ، ولا ينعكس ، فهناك من يستعين بالله في أمور دينه فقط وهذا نقص في الاستعانة ، ومنهم من يستعين به في أمور دنياه فقط ، وهذا أيضًا نقص في الاستعانة ، ومنهم من يستعين بالله في بعض أمور دينه أو في بعض أمور دنياه أو في حاجة واحدة فقط ، وهذا أيضاً نقص في الاستعانة ، والحق أن تستعين بالله في جميع أمور دينك ودنياك .

89- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أن تتبرّأ من حولك وقوّتك ، ولا يكن حالك حال من قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } القصص 78 ، بل عليك أن تفتقر إلى الله وحده ، وتسأله الإعانة في الأمور كلّها ، فإحساسك بالحاجة إلى معونة ربك ، معناه : أنك لا تملك لنفسك حولاً ولا قوة ، وهذا الشعور من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة التامة في تربية الذات وتنميتها ، كهذا الهراء الذي نسمعه يتردد على ألسنة الكثير ممن يرددون { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } في اليوم مراراً وتكراراً ، ويستشهدون بأعلام ليسوا على شريعتنا ويحاجون بحجج واهية تنافي الذل والافتقار إلى رب الأرباب .

90- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } شعور غرسه الله في فطرة الإنسان بضرورته إلى ربه وخالقه ومالكه ؛ ثم أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب للتذكير بذلك ، رحمة منه للطائعين ، وقطعاً منه لحجة المعاندين ، فكل مخلوق مضطر إلى موجده ومنشئه ومدبر أمره ورازقه ، فهل فقهنا معنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
91- في قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لجوءك إلى الله عزّ وجلّ أن يثبتك على دينه ، فالصراط المستقيم هو الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فـ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التزام بما أوجبه الله عليك من العبادة ، و {َإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب للإعانة على ذلك ، و{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل ، والتوفيق للقيام بهما .
92- { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } سؤال عظيم لا يعرف قدره وحاجته إلا من وفقه الله وسدده وقليل ما هم ، فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام ، فأنت تطلب من الله أن يبين لك طريق الحق ، وهذه هي هداية البيان ، وتطلب من الله أن يوفقك لهذا الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وأن يثبتك عليه ، وهذه هي هداية التوفيق ، ونحن في زمننا هذا ؛ أشد مانكون إلى هاتين الهدايتين ، فنسأل الله أن يرزقنا إياها ، بمنِّه وفضله وكرمه .

93- إن حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العبد وقت سؤاله هو طريق الله الذي نصبه لعباده عن طريق رسله ، فمن رحمة الله أن أوجب علينا تكرار هذا الدعاء ، فلنتأمل ضرورتنا إلى هذا الدعاء ، فالهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع ، والعمل الصالح ، والثبات على ذلك إلى أن نلقى الله .

94- إن الإيمان والعمل الصالح هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه , وأمرهم بسؤال الهداية إليه , ولو رجعت إلى كتاب الله وتدبرت الصراط المستقيم الذي وعد الله أهله بالتمكين والاستخلاف والأمن والعزة والنصرة والسعادة والحياة الطيبة والراحة والطمأنينة وغير ذلك من الثمرات التي وعد الله بها في كتابه لأهل الصراط المستقيم لوجدت ذلك أكثر مما يُحصى .

95- كل ما خالف هذا الصراط من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج ولذلك جعل الله هذا الدعاء ركناً قولياً نجهر به في الصلوات اليومية ، لأنه إذا حصل البيان والدلالة والتعريف ، أدى ذلك إلى هداية التوفيق وحُبِّب الإيمان في قلب صاحبه وزُين فيه ، وحصل الرشد والهداية . نسأل الله من فضله .

96- في هذا الدعاء ضمان السعادة في الدارين ، فنحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان ، وإلى السكون والاطمئنان ، فالأمر يتعلق بمصير الإنسان ، وبكل حياته ووجوده وحركته، فهذا الدعاء أعظم شيء نحتاجه ، فحاجتنا إلى الهدى في كل لحظة أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشرب .

97- من هُدي في هذه الدار إلى الصراط المستقيم الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ، هُدي في الآخرة إلى الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم ، فعلى قدر سير العبد على هذا الصراط في الدنيا ، يكون سيره على ذلك الصراط في الآخرة ، قال ابن تيمية رحمه الله : والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم ، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ، فمن مر على الصراط دخل الجنة .
فلينظر المرء إلى الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم ، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط التي تخطفه وتعوقه عن المرور عليه ، فإن كثرت هنا وقويت ، فكذلك هي هناك ( وما ربك بظلام للعبيد .

98- في قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } التفصيل بعد قوله الصراط المستقيم ، لبيان هذا الطريق الذي هو طريق الذين تكرّم الله عليهم بأعظم النعم ، وقد ذكرهم الله في سورة النساء بقوله : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً } .

99- في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } رد على الشيعة الذين يرددون في صلاتهم هذه الآية ، ويقعون في أبي بكر وإمامته وهو من الصديقين رضي الله عنه وأرضاه ، نعوذ بالله من الضلال .

100- في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } دليل على أن نعمة الدين أكبر من نعمة الدنيا ، وأن من سلك هذا الصراط فهو في نعمة ، وفي سرور وانشراح لقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ... } النحل 97 ، فهؤلاء في نعمة وإن كانوا في ضيق من العيش ، لأن النعمة بالدين أعظم نعمة ينعم الله بها على عبده .

101- كلمة { أَنْعَمْتَ } تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من هداية ، أو صحة أو مال ، أو جاه ، أو علم ، أو أمن ، أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان ، فهذه كلها نعم من رب العالمين ، ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة ، فهل النعمة نعمة المال ، أو السلطة ، أو الجاه ، أو المنصب، أو القوة الجسدية ، أو الجمال ، أو النسب ، هذا كله أو بعضه قد يشعرك بالطمأنينة ، والسعادة ، والراحة النفسية ، ولكنها طمأنينة وراحة وسعادة لاتلبث أن تزول ، فالمال والجمال والقوة وغير ذلك لن يستطيع أن يمنحك السعادة التي قد يجدها الفقير المعدم ، ويفقدها الغني بماله ، ولأجل ذلك جاء التعبير عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، بـ { أنعمت عليهم } لأنهم في نعمة حقيقية ، وفي السعادة القلبية ، حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن ، والبلايا، ويستشهدون .

102- إن في المغضوب عليهم والضالين من أنعم الله عليهم بنعم عظيمة في الدنيا لكن هذه النعم ليست بشيء بالنسبة إلى نعمة الدين ولهذا قال تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لبيان أن النعمة الحقيقية هي نعمة الهداية .
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأثر جنبه من الاضطجاع على سرير الليف الذي عنده ، فبكى رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر ؟ قال عمر : ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى ، فقال : يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ قال : بلى ، قال : هو كذلك .

103- في قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } استعطاف ، فإن من عادة المساكين أن يتوسلوا بقولهم : أعطنا كما أعطيت فلاناً وفلاناً، فهذا الدعاء توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليهم بالهداية كما يقول السائل للكريم : تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم ، وعلمني في جملة من علمته ، وأحسن إليّ في جملة من شملته بإحسانك ، وهذا من الافتقار إلى الله في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين .

104- تكرار هذا الدعاء في كل ركعة دليل على أن هذا الدعاء ليس أمراً نظرياً تجريدياً لا واقع له ، أو فوق طاقة البشر ، أو غير قابل للتطبيق ، بل إنه تعالى في خصوص هذه السورة يريد أن يبين لنا أن الأسوة والقدوة واقعاً حياً يمكن أن نترسم خطاه ، ونهتدي بهديه ، وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم سبع عشرة مرة ، ليصبح خلقاً ، وطريقة ، من خلال ارتكاز ذلك في نفس الإنسان وروحه .

105- في الآية دليل على أن الله تعالى له المنة الكبرى على من أنعم عليهم بهذه النعمة ، فليحمد العبد ربه على كل عمل صالح يعمله ، فإنه بنعمة الله ، وعونه وتوفيقه .

106- أنت متوسل إلى الله بإيمانك واعتقادك أن صراط الحق هو الصراط المستقيم ، وأنه صراط الذين اختصهم بنعمت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://islamona-dinona.yoo7.com
 
الدرر الماتعة في تدبر الفاتحة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الدعوة إلى الإسلام :: المنتديات الإسلامية على مذهب السنة و الجماعة :: القرآن الكريم-
انتقل الى: